دروس خالدة

منذ نعومة أظافري وقد اعتدنا الانقطاع عن العالم الخارجي في رحلة بين شواطئ البحر الأحمر وسمائها المرصع بالنجوم، في منطقة نائية لا يسكنها أحد سوى الطبيعة، يخلو منها البشر ونختلي بها مع النفس. يعانق هدوئها غناء الموج ونسمات الهواء اللطيف والخالي من عبث الحضارة.

اعتدنا الذهاب الى البحر، نقيم يومين أو أكثر. ننصب خيمتنا المتواضعة، تحيطها سياراتنا ويملئها ضحكات أباءنا وأبناء عائلتنا، نمارس فيها أنشطة مختلفة رغم صغر حجمها وكثافة عددنا.

وحين يشق نور الصباح الباكر، يشد الرحال صيادينا، مدججين بأسلحة الصيد من الصنانير والحبابير، ويشدون الرحال الى “الكسارة” ليقفوا هناك لساعات طويلة، يرمون حبالهم وسط البحار وبكثير من الصبر وقليل من الحذر، يعودون الينا بكل أنواع الأسماك اللذيذة.

استمرت هذه العادة بشكل سنويا، وفي كل سنة تزداد أعداد المشاركين في الرحلة ولا تزال الخيمة هي نفسها، بنفس حجمها، وبنفس بساطتها، تكفينا وتزيد سعادتنا بوجود وجوه جديدة.

تساءلت مؤخرا وسألت، كيف كانت البداية؟ من صاحب الفكرة؟ فلم يولد بني جوهرجي على شواطئ البحر الأحمر، ولم يعتد أجدادنا الصيد وانما صياغة الذهب، فكيف بدأت هذه العادة؟

كانت البداية في أرامكو بينبع، حيث كان عمي “خالد” –رحمه الله- يشرب قهوته في الكافي القريب من مكتبه، كان الكافي وقتها مكتظاَ. وبينما كان يغرق “خالد” في أفكاره وتطلعاته للمستقبل، لاحظ العامل المنهك والواقف في حيرة من امره يبحث عن مقعد شاغر للجلوس والراحة. دعاه “خالد” الى طاولته وطلب منه أن يشاطره مجلسه. فوافق العامل بكل سعادة.

بدأ “خالد” يسأله عن حاله وأحواله، وكان “راؤول” سعيدا بالمحادثة، تحدث “راؤول” عن عائلته وابنائه، عن طموحاته واشتياقه لبلده، سأله “خالد” عما كان يفعله بعد نهاية عمله، فحدثه “راؤول” عن روعة البحر الأحمر ومدى شغفه بالصيد في بحر ينبع.

لم تكن المحادثة نهاية العلاقة، فقد أثارت كلمات “راؤول” الفضول لدى “خالد”، ذلك الفضول الذي لا ينعم كلنا به، الفضول الذي يفتح لك أبواب لم تكن تعلم بوجودها. فطلب “خالد” من “راؤول” ان يذهب معه في رحلته القادمة الى البحر ليشهد روعة الصيد التي حكاها له العامل.

وفعلا، انتهى دوام أرامكو المتعب وأنطلق “خالد” مع “راؤول” الى البحر، وبدأ “راؤول” بالصيد وكان يراقب “خالد” ما يفعله “راؤول”، كيف يجهز سنارته، وكيف يرميها، ومتى يسحبها، وكل ما اشتدت به الحيرة، سأل “خالد راؤول سؤال الطالب الى معلمه، لم يكن ينظر الى “راؤول” كعامل بينه وبين منصبه العشرات من المدراء، وانما نظر اليه كراؤول الإنسان.

في اليوم التالي، اتصل “خالد” بوالدي “عدنان”، اخاه الأكبر وشريكه في “هبقات” الطفولة. ودعاه الى ينبع بدون مقدمات، ولم يفكر “عدنان” مرتين بالأمر أو يتردد، أنطلق الى ينبع ليجد “خالد” بانتظاره في السيارة! دخل “عدنان” الى سيارة “خالد” وسأله عن الوجهة، فأجاب “رحلة جديدة!”

انطلق الاثنان الى البنقلة، دخل “خالد” الى محلات الصيد وتحدث بلغة الخبير، لم يكاسر في السعر كعادته وأعطاهم ما طلبوه وإن كان يعلم بأنهم “زرفوه” الا أنه يؤمن بأنها هبات لمن هم أقل منه حظا، وان الله يسره لعباده ليعطيهم من كرمه وخيره.

انطلق الاثنين و“عدنان” تجتاحه الأسئلة، لم يسأل لماذا؟ وكيف؟ فجل ما كان يرغب به “عدنان” هو قضاء الوقت مع أخيه، في أي مكان او زمان.

وصل الصيادين المبتدئين الى أحد الشواطئ الخالية، وبدءا بالصيد، وكانت الساعات تمشي كالدقائق، يتجاذبان أطراف الحديث الذي لا ينتهي، علوم واقتصاد و سياسة وخطط مستقبلية، وبين كل “هرجة” وأخرى تشد أحد السنارتين، ويصطاد أحدهم سمكة لم يعرف أسمها.

أصبح الشغف الى هذه الهواية أكبر، وأصبحت الزيارات الى ينبع أسبوعية، اشتدت أواصر العلاقة أكثر بين الاخوين واشتدت معها علاقة زوجاتهم وأبنائهم ببعض، واصبح المبتدئين خبراء في هواية الصيد، وبدأ ينضم اليهم من أهل ينبع، عمي “حسن”، وكان عمي “عبدالجليل” –رحمه الله- لا يحب الجلوس بالمنزل، وفي احد زياراته لابنته في ينبع، ذهب مع زوج ابنته “خالد” الى رحلته الى البحر، فتعلق قلبه المكاوي بشواطئ ينبع، وسرعان ما أصبح الصيد هوايته الأولى.

تناقل الأخوان خبر الهواية الجديدة، ورغبة في وصل الرحم اتفقوا على رحلة جماعية، فكبرة الدائرة وازداد عدد المشاركين وانضم إليهم ابنائهم، فتعرف الأبناء على الإباء وتعرف الاباء على أبناء إخوانهم وأبناء عمومتهم، وأصبحت الحاجة الى خيمة أمر ضروري، دخل في هذه الدائرة أخوة “خالد”، اقاربه من زوجته، أقاربه من اهله، أرحامهم وأصدقائهم، وأصبحت عادة سنوية، لا تمر سنة من السنوات إلا وقد أتفق عدد كبير منهم لرحلة جديدة في شاطئ جديد.

هكذا بدأت قصة “الجوهرجي مع بحر ينبع” نوعا ما ولم تنتهي! فبعد مرور 8 سنوات عن أخر مشاركة لي لرحلات البحر، أتفق أبناء العائلة من الجيل الشاب هذه السنة لتجديد العادة واستكمال صلة الرحم، وجددنا خلالها أواصر العلاقة، فتركنا أعمالنا وركبنا سياراتنا وانطلقنا في رحلات طويلة من الشرقية والرياض والطائف وجدة.

وفي غمرة الرحلة وعلى جلستنا أخر الليل أمام “شبت النار” وعلى ضوء القمر، حدثتهم عن هذه القصة وتبادلنا القصص عن عمي خالد فقد ترك في كل منا شيء جميل يذكر له، وترحمنا عليه ودعونا له بالرحمة والمغفرة.

في لحظة ما خلال تلك الرحلة وبينما كنت منهمكا في ترتيب مكان نومي، سمعت أصوات الخيمة تملئها ضحكات شباب العائلة، فتذكرت تلك الضحكات المشابهة في الماضي مع أباءهم، تذكرت جلوس عمي “عبدالجليل” رحمه الله لساعات طويل امام سنارته على حافة الشاطئ يحدثنا عن مغامرات شبابه، تذكرت صوت قدر الطبخ يطبل كل صباح ونداء عمي “خليل” المضحك/المضني للنهوض باكرا من لذة النوم، تذكرت حديث عمي “خالد” عن خططه للعائلة، تذكرت مديح وتشجيع عمي “هاشم” لأبنائه بصوته العالي، تذكرت هدوء عمي “حسن” في خضم الضجيج ولطفه مع حديثي العهد بالصيد وتعليمه لهم، تذكرت عمي “طلعت” ينادي بالصلاة ويجمعنا خلف سجادته، تذكرت قصص عمي “عبدالرزاق” ورحلاته حول العالم. تذكرت الجميع يعمل لتنظيف الخيمة وترتيب السفرة وطبخ الفطور والغداء والعشاء.

قصة بداية هذه العادة العائلية استخلصت منها بعض الدروس الخالدة:

  1. كلما زدت علما أو مالا أو منصبا، اكسر حاجز الكبر وحطم معها الحواجز الاجتماعية وكن صديقا لكل إنسان، لا تفرق بين عربي ولا عجمي، أنظر لهم كبشر متساوين.

  2. الفضول مفتاح للسعادة، لا تعتقد بأنك تعرف كل شيء، فكل ما أوتيته من علم ومعرفة وتجارب وخبرات، لا يضاهي ما قد عاشه غيرك الملايين من البشر. كن فضول لمعرفة الأخرين، وكن راغب في تجربة أشياء جديدة

  3. مهما كان عملك مرهقا، فلنفسك عليك حق، اترك كل شيء بعد إنجازه وعش تجربة جديدة، لا تنغمس في عملك ومسؤولياتك طوال يومك، لنفسك عليك حق! لا تقصر في حق من حولك، والديك وعائلتك أو أصدقائك ولكن من المهم ألا تقصر على نفسك ايضا.

  4. أخلق مجتمعا حول هوايتك، يساعدك في الوصول لسعادتك، أخلق عادة وطقوسك الخاصة، شارك هذه الطقوس مع من حولك، كن دائرة للتأثير وليس مجرد متأثر

  5. صل رحمك بطريقتك الخاصة، اجعل من لقائك بهم له غاية، ليست الغاية اجتماع في مجلس الصالة المغلق للحديث فقط، أضف اليها نكهات جديدة.

  6. اخوك أقرب اصدقائك، مهما ابتعدت المسافات بينكم الا ان القلوب تبقى قريبة، ومهما كانت المسافات الا ان لقائه يستحق ما قد تتحمله من معاناة.

تنويه:

وردتني قصة العامل مع عمي خالد، ولم تردني التفاصيل فهي بتصريف كامل من “كيسي” فلا اسم العامل او مكان لقائهم وردني، ولم يعلم بحدثيهم غيرهم. كانت هناك الكثير من الفراغات التفصيلية التي عبأتها بخيالي لنعيش سويا تلك اللحظة، فراغات بنيتها بما اعرفه عن طباع عمي ووالدي، هي مجموعة من القصص القصيرة سمعتها من الكثيرين وقررت ان ازيد عليها التفاصيل حتى تصل لك الصورة.

ساهمت تلك الرحلات ببناء شخصياتنا ولا أعتقد بأن علاقتي مع أبناء العائلة ستكون كما هي اليوم لولا الله ثم هذه الرحلات التي جمعتنا على مر السنين، فمن خلال تلك الرحلات تعرفنا على بعضنا وبنيت العلاقات الاجتماعية على نحوها اليوم. رحم الله من توفى وغفر الله لهم، واطال الله في عمر البقية.

3013 مجموع المشاهدات 1 مشاهدات اليوم